أسقطنا مبارك ولكن نظام مبارك لم يسقط بعد

جريدة الشعب :



بقلم: مجدي أحمد حسين

المرحلة الثانية للثورة قد لا تقل صعوبة عن المرحلة الأولى بل هي أصعب بالفعل . ففي المرحلة الأولى ( إسقاط مبارك) تكون الأمور بسيطة وواضحة : الشعب فى جانب والطاغية فى جانب آخر ، والشعب يطالب بإسقاط الطاغية. صعوبة هذه المرحلة هى فى مخاطرها الكبرى المباشرة ، وهى أيضا صعوبة البداية فى طريق صعب. أما المرحلة الثانية التى نسعى فيها لتسلم الشعب للسلطة فتكمن صعوبتها فى أن المشهد السياسى يكون أكثر تعقيدا ، فهناك من يزعم من نظام مبارك أنه انضم للثورة بينما هو يسايرها للحفاظ على مكانته وحتى يمكن تطويقها . وهناك خلاف طبيعى لابد أن يظهر بين فرقاء الثورة حين يبدأ الحديث عن المستقبل وطبيعة النظام المستهدف ، وهناك من يعادى الثورة صراحة وهى قلة ضئيلة ولكن الأخطر هو زيادة أعداد فلول النظام فى التجمعات الجماهيرية بغرض تخريبها من الداخل. وكذلك تقوم أجهزة أمن النظام السابق بدور كبير فى اختراق الحركات الجماهيرية وتخريبها من الداخل ، إما بالتثبيط أو المزايدة ، حسب الموقف. وهناك شرائح من الشعب يصيبها الملل من هذا المشهد ، وهناك شرائح أخرى تستعجل ثمار الثورة ولا تطيق صبرا عليها. وعادة ما تتغلب الثورات على مصاعب هذه المرحلة الثانية بوجود قيادة رشيدة تحظى بتوافق الشعب ورضاه أو الأغلبية الساحقة للشعب. فهذه القيادة ذات الشرعية الثورية هى التى تدير الصراع مع بقايا النظام السابق ، حتى تسلم الثوريين تماما للسلطة .

وقد قلت من قبل أن المرحلة الأولى من الثورة يمكن أن تتم بدون قيادة واضحة منظمة ، ولكن من الصعب للغاية الاستمرار فى المرحلة الثانية بدون هذه القيادة ، وقد كنا نعول على التزام المجلس العسكرى بتعهداته ، وقد ثبت مع الأيام أنه غير ملتزم ، ولا يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام بدون ضغط شعبى. وهذا من أهم أسباب اهتمامنا وإصرارنا على سرعة إجراء الانتخابات ، فقد وجدنا أنها الوسيلة السلمية الحضارية التى يمكن أن تبلور قيادة حقيقية للثورة وأن تكون خطوة كبرى على طريق نقل السلطة من العسكريين إلى المدنيين ، وبذلك يكون القطار قد وضع على القضبان الصحيحة.

ومع ذلك يبدو أننا كنا فى حاجة لتشكيل قيادة للثورة حتى خلال هذه المرحلة الانتقالية ولكن انقسام الثورة إلى فرعين : إسلامى وعلمانى هو الذى عرقل هذه الإمكانية. وأنا أحمل العلمانيين (بمنتهى الأمانة وبدون أى تحيز) المسئولية الأولى عن دفع الثورة الى حالة الاستقطاب بين الطرفين ، فخوفهم من فوز الإسلاميين فى الانتخابات هو الذى حدا بهم لتصعيد هذه الخصومة وذاك الاستقطاب. وقد أصبحنا بالفعل الآن أمام ائتلاف اسلامى ومجموعة ائتلافات من التيارات الأخرى .

وأناشد عقلاء العلمانيين الوطنيين أن يتفاهموا مع الائتلاف الإسلامى على موقف موحد لحماية الثورة ودفعها الى الأمام على أساس الاتفاق المشترك الواقعى بين الطرفين فى مجال تصفية ماتبقى من نظام مبارك والاسراع بالمحاكمات ، وأخذ حق الشهداء الخ وعلى طوى صفحة الخلاف حول ( الدستور أولا أم الانتخابات أولا) وأن نتعاون وننسق معا كما بدأنا بالفعل فى قوائم الانتخابات القادمة . ان المصلحة العليا للثورة تكمن فى تقصير المدة الانتقالية الى أقصر حد ممكن ، لأنها أشبه بفترة ضائعة من عمر البلاد، بل لأن استطالتها تغرى العسكريين بالبقاء فى السلطة أو تسليمها بعد وضع قواعد حاكمة لسيطرتهم ( لا للدستور !) .

نحن فى سباق حقيقى مع الزمن لأن أسوأ العناصر المتبقية من نظام مبارك تسعى لاعادة بناء النظام " الجديد" بنفس الأسس السابقة وخاصة فى مجال الأمن. وان تصور بعض الثوريين أن الزمن مفتوح بين الثورة وبقايا نظام مبارك ، هو تصور لايتسم بالرؤية السياسية والاستراتيجية الثاقبة. فعنصر الزمن مهم جدا ، فعندما يكون الخصم مترنحا فليس من المصلحة اعطاءه فرصة ليستجمع قواه ، كما يحدث على حلبة المصارعة أو الملاكمة. والذين يدخلون فى سجالات ثورية مع المجلس العسكرى ليبرهنوا لنا أنهم يفهمون أكثر من غيرهم مساوىء ممارسات المجلس العسكرى ، يرتكبون أكبرخطأ على المستوى التكتيكى والاستراتيجى. فأصحاب الثورة يعلمون جيدا سوءات كل من عمل فى ظل نظام مبارك خاصة فى المستويات العليا. ولكن أصحاب الثورة لايشغلهم الا موضوعا واحدا هو تسلم الشعب للسلطة وتحقيق أهداف الثورة أو التقدم نحو تحقيقها من أقصر الطرق. بل الحقيقة لقد استفاد المجلس العسكرى من الخلافات فى معسكر الثورة ( على محور الاسلام - العلمانية) لتأجيل الانتخابات والتأمل فى فرص البقاء طويلا فى الحكم. والذين يولولون من مساوىء الحكم العسكرى اذا هم اتحدوا مع أنصارالانتخابات أولا والاسلاميون مكون أساسى بينهم ، لتمكنا من الضغط بسهولة على المجلس العسكرى للالتزام بمواعيد تسليم السلطة.

ومن الذكاء أن يتحد المدنيون للقضاء على إرث طويل من الحكم العسكرى المباشر وغير المباشر( أكثر من 60 عاما). وأن يدرك المدنيون أن حل الخلافات بينهم مشكلة أسهل بكثير من حل الخلافات مع حكم عسكرى متسلط. وأن الحكم المدنى الديموقراطى هو المدخل الحقيقى لعلاقة صحية بين المدنيين والعسكر ، دون أن يغفل المكانة المتميزة للعسكر فى أى نظام سياسى ، ومن باب أولى فى بلد يقع على حدود العدو الاسرائيلى. ونحن نعلم أن الطريق لن يكون مفروشا بالورود بين البرلمان المنتخب وحكومته وبين المجلس العسكرى ، ولكن سيكون لنا لأول مرة منذ اندلاع الثورة جهة تستطيع أن تتحدث باسم الثورة بشكل قاطع ، وبشرعية ثورية وقانونية معا. وسيكون الشعب غالبا بجوار برلمانه الذى انتخبه بنفسه فى حالة وجود أى نزاع. بل عندما تشرع الحكومة المنتخبة وبرلمانها فى العمل الجاد من أجل البناء، فإن أى مشاغبات للمجلس العسكرى ستحوله إلى موقع المعطل على غرار مايتهم به الآن أصحاب الثورة الحقيقيين!


نحن لانريد أن ندخل فى تقييمات وتفصيلات معروفة.فالمسألة ببساطة أن قيادة الجيش عندما وجدت نفسها وجها لوجه أمام الثورة يوم سقوط الشرطة ( 28 يناير) وترددت لمدة أيام قررت فى النهاية عدم الصدام مع الثورة والضغط على مبارك لتعيين نائب له ( عمر سليمان) وعندما فشل هذا الخيار سريعا ، تمت تنحية مبارك. وكان الأمريكيون يدفعون فى هذا الاتجاه فى محاولة يائسة( وإن لاتزال مستمرة حتى الآن)! للاحتفاظ بنظام مبارك بدون شخص مبارك. وهو نفس الموقف المتكرر بصورة نمطية فى تونس واليمن وليبيا . وقد حاول المجلس العسكرى أن يمرر فكرة الوفاء لمبارك ولكنها سرعان ماسحبت تحت تأثير الرفض الشعبى ، ولكن من المثير أن المجلس حاول بعد ذلك بأسابيع ، بل وبعد تحويل مبارك للتحقيق تحت ضغط المليونيات، حاول وضع فقرة فى وثيقة المصالحة الفلسطينية تتضمن معنى الوفاء لمبارك والتقدير لدوره فى خدمة القضية الفلسطينية !! ولكن معظم الوفود الفلسطينية رفضت ذلك.

قد لانحتاج لأى جهد للبرهنة على أن المجلس العسكرى كان جزءا لايتجزأ من نظام مبارك. وأنهم لم يفكروا فى أى ثورة من أى نوع ، ولا حتى تولى قيادة العمل السياسى ، حتى يوم 28 يناير 2011. وأن هؤلاء ماكانوا ليصلوا الى مواقعهم فى هذه المؤسسة الحساسة ، الا بموافقة مبارك وأجهزته، بالاضافة للأقدمية والتى تعكس الالتزام الوظيفى .ون قرارهم بعدم الصدام مع الشعب يعود ، ضمن عوامل أخرى ، الى ادراكهم أن الشعب كان سيواصل المقاومة السلمية مهما كانت التضحيات ، وأن أفراد القوات المسلحة وقياداتها الوسيطة وبعض قيادتها العليا، كانت ستتمرد على أى قرار بفتح النار على الشعب . كما حدثت بعض محاولات فى الأيام الأولى للثورة من الحرس الجمهورى لقمع المتظاهرين فى التحرير ولكن ثلاث سيارات مدرعة على الأقل تعرضت للحرق بالمولوتوف. وكانت رسالة مهمة : أن الطريق ليس سهلا أمام القوات المسلحة لقمع الثورة.

ومع ذلك ورغم ادراكنا لهذه الحقائق وأكثر منها ، فاننا دعونا ولانزال الى التعامل بجدية واحترام مع المجلس العسكرى على أساس تعهداته العلنية بتسليم السلطة خلال أقل من عام. ولكن المجلس الذى تعرض لوسوسة شياطين الداخل والخارج أخذت تتقاذفه الأفكار الشريرة : كإطالة أمد وجوده فى السلطة وهذا أصبح مؤكدا اذا التزم بآخر عهوده بأن تكون الانتخابات فى النصف الثانى من نوفمبر وهى ستستمر أكثر من شهر وهكذا نكون قد أنفقنا سنة من أجل انجاز الخطوة الأولى لتسليم السلطة .وبذلك تحولت سلسلة من العهود الى سلسلة من عدم المصداقية .

وهذا يعنى أننا لايجوز أن نسلم بعد الآن بأى تطمينات أو اعلانات من المجلس العسكرى ، وأن الاجتماعات المليونية الأسبوعية فى ميدان التحرير أصبحت ضرورية أن تستمر حتى إقرار قانون الانتخابات وفقا لتصور القوى السياسية ( القائمة النسبية غير المشروطة على كامل المقاعد) وحتى يتم اعلان جدول زمنى دقيق ونهائى للانتخابات.


أما تضييع الجهد والوقت فى مطالبة المجلس العسكرى بتنفيذ أهداف الثورة فهذا نوع من العبث ، لأنك تطلب الشىء ممن لايملك ولايؤمن بتحقيقه ، ومن الطبيعى أن تجد شابا يصرخ فى التحرير : إنه لم يجد أى تغيير حقيقى ولم يجد إستجابة لأهداف الثورة ، ولكن القيادات المجربة عليها أن توضح أن هذا الطريق مسدود ، وأن من يدير معركة سياسية عليه أن يدرك تضاريسها السياسية ، كما يقوم المكتشف الجغرافى أو الرحالة بدراسة التضاريس الجغرافية للمكان المستهدف.وبالتالى فإن كثرة مطالبة المجلس العسكرى بتحقيق أهداف الثورة هى نوع من السذاجة السياسية ، وعدم ادراك أين يجب توجيه الاهتمام والتركيز فى الحركة السياسية.


إن المطلوب هو ايصال قيادة منتخبة لسدة الحكم كى تحقق أهداف الثورة. وإن تفجير أزمة مع المجلس العسكرى لايكون الا عند امتناعه عن تسليم السلطة. والمقصود تسليم السلطة عبر الانتخابات ، ولذلك ينبغى لكافة القوى الثورية أن تتوحد حول هذا الهدف وتدرك أن هذا هو الطريق الإجبارى الوحيد للمحافظة على الثورة ودفعها للأمام. ولكن مما ساعد على تأخير وتسويف الانتخابات، الحركة العلمانية التى تحركت تحت شعار الدستور أولا ، فغلبت الخوف من الاسلاميين على المصالح العليا للثورة . بل اتضح أن المقصود هو صياغة دستور من مجموعات علمانية غير منتخبة والاستقواء بالمجلس العسكرى لتمرير ذلك ، وهذا ما أوصلنا لفكرة المبادىء الحاكمة للدستور. إن الخلاص من جذور الاستبداد لن يتحقق بدون اعتماد الانتخابات فى كل الخطوات الرئيسية لبناء واستمرار النظام الجديد. والجمعية التأسيسية المنتخبة لصياغة الدستور على رأس ذلك.

إن المواجهات المؤسفة التى قام بها بعض البلطجية بالتنسيق مع الجيش لقمع مظاهرة متجهة لوزارة الدفاع مساء السبت الماضى، من الأمور المرفوضة تماما وهى ليست المرة الأولى التى يحدث فيها تناغم بين الشرطة العسكرية والبلطجية ، بنفس أسلوب تناغم الشرطة معهم. ورغم أننا لانوافق على شعارات المظاهرة المتعلقة بإسقاط المجلس العسكرى، إلا أن هذا لايبرر استخدام العنف طالما أن المظاهرة سلمية. وفى المقابل نرى أننا لم نصل بعد إلى طريق مسدود مع المجلس العسكرى ، ولكننا نحذر من هذا الاحتمال فى حالة الاستمرار فى المماطلة فى عملية تسليم السلطة.


وأخيرا فإننا ندعو أن تكون مليونية الجمعة القادمة ( 29 يوليو) مليونية وحدة الثورة ، وسلميتها ، مع التركيز على نقل السلطة عبر الانتخابات للمدنيين فى أقرب وقت ممكن. ولسنا ضد المطالبة بالتعجيل فى محاكمات مبارك وأعوانه ولكننا نثق أن المجلس العسكرى لن يقوم بذلك بصورة حقيقية. بل لن يقوم بهذه المهمة إلا حكم جديد منتخب من الشعب.( والحديث متصل)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق